فصل: مسألة الدراهم لا تغير لما فيها من أسماء الله عز وجل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الدراهم لا تغير لما فيها من أسماء الله عز وجل:

في الدراهم لا تغير لما فيها من أسماء الله عز وجل وسئل مالك عن تغيير الدراهم لما فيها من كتاب الله، قال مالك: كان أول ما ضربت الدراهم على عهد عبد الملك بن مروان والناس متوافرون، فما أنكر ذلك أحد، وما علمت أن رجلا من أهل الفقه أنكره ولا أرى به بأسا. قال مالك: ولقد بلغني أن ابن سيرين كان يكره أن يبيع بها أو يشتري بها، وما ذلك من شأن الناس وما أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: إنما لم ينكر سلف الإسلام الدنانير والدراهم المضروبة لما فيها من أسماء الله عز وجل. وأجازوا البيع والشراء بها وإن كان ذلك يؤدي إلى أن يمسها الطاهر والنجس واليهودي والنصراني، من أجل ما فيها من المنفعة العامة لجميع المسلمين، لأنهم يميزون بالسكك طيب الذهب والفضة ويعرفون بها مقدار فضل بعضها على بعض في الطيب، فتصح فيها البيوع فيما بينهم، لأن النقر والاتبار من الذهب والفضة لا يميز الخالص منها من غير الخالص إلا الصيارفة والخاص من الناس بعد الاختبار.
فلو قطعت السكك وحمل الناس على التبايع بأتبار الذهب والفضة لفسد كثير من بيوعهم ووقع فيها فيما بينهم الغش والخديعة. ويكره للرجل في خاصة نفسه أن يشتري بالدنانير والدراهم المضروبة شيئا من اليهود والنصارى لما فيها من أسماء الله عز وجل، فقد كره ذلك مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، وأعظم أن يعطاها نجسا. فمن امتنع من ذلك تعظيما لأسماء الله عز وجل أجر، ومن فعله لم يأثم لما في ذلك من الحاجة. وقد أجيز في موضع الضرورة أن يعطوا الآية والآيتين من القرآن على باب الدعاء، كما كتب النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} [آل عمران: 64] الآية وبالله التوفيق.

.مسألة الاستعداد لخروج الدجال:

في الاستعداد لخروج الدجال قال مالك: بلغني أن الناس كانوا يعدون الإبل والخيل لمكان الدجال يخرجون عليها.
قال القاضي: إنما كانوا يتأهبون لذلك لما جاء عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ مما يؤذن بقرب خروجه. من ذلك حديث أبي عبيدة بن الجراح خرجه الترمذي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه وإني أنذركموه، ووصفه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لعله سيدركه بعض من رآني وسمع كلامي. قالوا: يا رسول الله فكيف قلوبنا يومئذ، قال: مثلها، يعني اليوم، أو خير». ومن ذلك حديث النواس بن سمعان الكلابي خرجه الترمذي أيضا وقال فيه حديث حسن صحيح غريب قال: «ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فانصرفنا من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم رحنا إليه فعرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قال: قلنا يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، قال غير الدجال أخوف عليكم. إن يخرج عليكم وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. إنه شاب قطيط الشعر عينه قائمة شبيه بعبد العزى بن قطن، فمن رآه منكم فليقرأ فواتح سورة الكهف. قال: يخرج ما بين العراق والشام، فقال: قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله إن أتى اليوم الذي كالسنة أتكفينا فيه صلاة يوم، قال: لا ولكن قدروا له. قال: قلنا يا رسول الله فما سرعته في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي القوم فيدعوهم فيكذبونه ويردون عليه قوله فينصرف عنهم فتتبعه أموالهم فيصبحون ليس بأيديهم شيء، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيستجيبون له ويصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم كأطول ما كانت ذرى وأمده خواصر وأدره ضروعا.
قال ثم يأتي الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فينصرف منها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلا شابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه ويضحك، فبينما هو كذلك إذ هبط عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ بشرقي دمشق عند المنارة البيضاء بين مهرودتين واضعا يده على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمال كاللؤلؤ. قال: ولا يجد ريح نفسه أحد إلا مات، وريح نفسه منتهى بصره. قال: فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. قال: فيلبث كذلك ما شاء الله. قال: ثم يوحي الله إليه أن أحرز عبادي إلى الطور فإني قد أنزلت عبادا لا يدان لأحد بقتالهم. قال ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم كما قال عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96]، قال: فيمر أولهم ببحيرة طبرية فيشرب ما فيها، ثم يمر بها آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء. ثم يمرون حتى ينتهوا إلى جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم محمرا، ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه حتى يكون رأس الثور يومئذ خيرا لأحدهم من مائة دينار لأحدكم اليوم. قال: فيرغب عيسى ابن مريم وأصحابه إلى الله، قال: فيرسل الله إليهم النغف في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة. قال: ويهبط عيسى ابن مريم وأصحابه فلا يجد موضع شبر إلا وقد ملئت من جيفهم ونتنهم ودمائهم. قال: فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت، قال: فتحملهم فتطرحهم بالنيل، قال: ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجفانهم سبع سنين. قال: ويرسل الله عليهم مطرا لا يكن منه بيت وبر ولا مدر، قال فيغسل الأرض قال: فيتركها كالزلفة قال: ثم يقال للأرض أخرجي ثمرتك ودري بركتك، فيومئذ يأكل العصابة الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل حتى إن الفئام من الناس ليكتفون باللقحة من الإبل وإن القبيلة ليكتفون باللقحة من البقر، وإن الفخذ ليكتفون باللقحة من الغنم. فبيناهم كذلك إذ بعث الله ريحا فقبضت روح كل مؤمن ويبقى سائر الناس يتهارجون كما تتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة.»
وبالله التوفيق.

.مسألة ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة:

فيما كان عليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاجتهاد في العبادة قال: وسمعت مالكا يقول: لما دخل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال: ما كان أصحاب عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ الذين قطعوا بالمناشر وصلبوا على الخشب بأشد اجتهادا من هؤلاء.
قال محمد بن رشد: قد وصفهم الله عز وجل في كتابه بما يشهد لهم بصحة قول هذا الرجل فيهم، وذلك قوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] إلى قوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وكان من شأن أصحاب عيسى ابن مريم الحواريين فيما ذكر أن اليهود لما ظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ابن مريم إذ تآمروا على قتله فألقى الله عز وجل شبهه على رجل من أصحابه فقتلوه وصلبوه، ورفع الله عز وجل عيسى إليه، أقبلوا على أصحابه الحواريين يقتلونهم ويعذبونهم بأنواع ليرعوهم عن الإيمان. وبالله التوفيق.

.مسألة حكم الأجراس في أعناق الإبل والحمير:

في الأجراس في أعناق الإبل والحمير وسئل مالك عن الأجراس تعلق في أعناق الإبل والحمير فكره ذلك، فقيل له فالقلائد؟ فقال: ما سمعت بكراهيته إلا في الوتر. قال ابن القاسم: لا بأس به في غير الوتر.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم حلف فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة الاعتبار بطلوع الشمس وغروبها:

في الاعتبار بطلوع الشمس وغروبها وسمعت مالكا يقول: كان بنجران رجل يصيح كل يوم:
قطع البقاء مطالع الشمس ** وطلوعها من حيث لم تُمس

وغروبها حمراء قانية ** وطلوعها صفراء كالورس

فاليوم أعلم ما يجيء به غد ** ومضى بفعل قضائه أمس

قال محمد بن رشد: قوله، والله أعلم، ما يجيء به غد، معناه الإنكار والتقرير على ذلك، إذ لا يمكن أن يقول ذلك أحد ولا يدعيه، وبالله التوفيق.

.مسألة نزول عيسى ابن مريم:

في نزول عيسى ابن مريم قال: وسمعت مالكا يذكر: بينما الناس ببلد إذ يسمعون الإقامة يريدون الصلاة فتغشاهم غمامة فإذا عيسى ابن مريم قد نزل.
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب، وأن الله عز وجل رفعه إليه. «وأخبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إخبارا وقع العلم به أنه ينزل في آخر الزمان حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال حتى لا يقبله أحد». وفي بعض الآثار: «فيهلك الله في أيامه الملل كلها فلا يبقى إلا الإسلام وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنمور مع البقر والذياب مع الغنم والغلمان مع الحيات فلا يضر بعضهم بعضا».

.مسألة صفة الأمر بالمعروف:

في صفة الأمر بالمعروف وسمعت مالكا يقول: كان سعيد بن جبير يقول: إن لم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر حتى لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد إذا بشيء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين أنه لا يسلم أحد من مواقعة الذنوب والخطايا، فقد ذكر الخضر لموسى- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-: واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لابد عامل شرا، وهو نبي مرسل، فكيف بمن دونه من الناس، فليس من شرط الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون معصوما.
وشرائط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ثلاثة: أحدها: أن يكون عارفا بالمعروف والمنكر، لأنه إذا لم يكن عارفا لم يأمن أن يأمر بمنكر وينهى عن معروف، الثاني: أن يأمن أن يؤدي إنكاره إلى منكر أعظم منه، مثل أن ينهى عن شرب خمر فيؤدي ذلك إلى قتل نفس؛ والثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر ونافع، فإن لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه لم يلزمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالشرطان الأولان شرطان في الجواز، وهذا الشرط الثالث شرط في الوجوب.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الأعيان بالشرائط المذكورة، قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وقال عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليصرفن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعن بني إسرائيل». كان إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاه الناهي تعزيرا فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم صرف قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لساني نبييهم داوود وعيسى ابن مريم- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-. {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] وبالله التوفيق.

.مسألة الدعاء بالموت:

في الدعاء بالموت وسئل مالك عن الذي يدعو بالموت فقال: ما أحب ذلك.
وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] قال ولعله يكون على حالة يرجوها أو يكره مصيبة فما أحب ذلك له.
قال محمد بن رشد: روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وليقل اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» فلا ينبغي لأحد أن يتمنى الموت لضر نزل به. وأما إن كان على حال يرجوها وخاف الفتنة على نفسه في الدين فالدعاء بالموت مخافة الفتنة في الدين جائز، قد قال عمر بن الخطاب بالأبطح حين صدر من منى: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفرط ولا مضيع. ودعا عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على نفسه بالموت مخافة التضييع فيما يلزمه القيام به من أمور المسلمين ورغبة فيما عند الله عز وجل وحبا في لقائه، على ما مضى في رسم البر. ولم يحب مالك في هذه الرواية للرجل أن يفعل ذلك. ووجه قوله ما يرجوه مع طول الحياة من أعمال البر لاسيما الصلاة، فقد «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأخوين اللذين توفي أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول عنده فقال: ألم يكن الآخر مسلما؟ قالوا: بلى يا رسول الله وكان لا بأس به، فقال: وما يدريكم ما بلغت به صلاته، وإنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون يبقي ذلك من درنه فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته». ومن الحظ للرجل أن يدعو إذا خاف التقصير في العمل أن يجعل مكان دعائه لنفسه بالموت أن يطول الله عز وجل عمره ويحسن عمله، لأن الخير كان للإنسان في أن لا يخلق، فإذا خلق أن يتوفى صغيرا، فإذا لم يتوف صغيرا فأن يطول عمره ويحسن عمله. وهذا مذكور في مناجاة موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وبالله التوفيق.

.مسألة رد حكيم بن حزام العطاء:

في رد حكيم بن حزام العطاء قال مالك: «إن حكيم بن حزام سأل النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال له النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: إن خيرا لك ألا تأخذ من أحد شيئا، قال: ولا منك يا رسول الله قال: ولا مني». قال: فكان عمر بن الخطاب يعطيه عطاء فيأبى أن يقبله، فكان عمر يشهد عليه، فكان حكيم بن حزام يقول: قد رددته على من هو خير منك. قال مالك: إنه إنما كان نهي عمر بن الخطاب حكيم ابن حزام أن لا يبيع حتى يستوفيه إنما هو في الطعام.
قال محمد بن رشد: إنما رد حكيم بن حزام عطاءه على عمر لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إن خيرا لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا قال: ولا منك يا رسول الله قال: ولا مني». والمعنى في ذلك وإن كان جائزا أخذه لأنه حقه من بيت المال، فإذا تركه ولم يأخذه من الإمام العادل فقد آثر به على نفسه سواه ممن يعطاه. ويكره للرجل أن يأخذ من أحد شيئا وإن كان من غير مسألة، لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اليد العليا خير من اليد السفلى». وقول مالك إن نهي عمر بن الخطاب لحكيم بن حزام أن لا يبيع ما ابتاعه حتى يستوفيه إنما هو في الطعام، هو نص الحديث في الموطأ أن حكيم بن حزام ابتاع طعاما أمر به عمر بن الخطاب للناس فباع حكيم ابن حزام الطعام قبل أن يستوفيه فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده عليه وقال: لا تبع طعاما ابتعته حتى تستوفيه. وهو مذهب مالك أن ما عدا الطعام من المكيل والموزون يجوز بيعه قبل استيفائه. وما جاء عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من «نهيه عن ربح ما لم يضمن» معناه عنده في الطعام. وقد مضى الوجه في ذلك في غير ما موضع من الديوان، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء:

في تفسير قَوْله تَعَالَى يؤتي الحكمة من يشاء قال مالك في تفسير: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قال التفكر في أمر الله والاتباع له.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم البر فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة رجوع الرجل على صدور قدميه في الصلاة:

في رجوع الرجل على صدور قدميه في الصلاة قال مالك: ما رأيت أحدا ممن كنت أقتدي به يرجع على صدور قدميه في الصلاة.
قال محمد بن رشد: معناه فيما بين السجدتين، وهو كما قال لأن سنة الصلاة أن يكون جلوسه بين السجدتين كهيئة جلوسه في التشهد. وقد رأى المغيرة بن حكيم عبد الله بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه، فلما انصرف ذكر ذلك له فقال: إنها ليست سنة الصلاة وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي. وقال في حديث آخر إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى والسنة إذا أطلقت فهي سنة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ حتى تضاف إلى غيره كما قيل قبل سنة العمرين.
والرجوع على العقبين بين السجدتين هو الإقعاء المنهي عنه عند أهل الحديث. وعند أهل اللغة جلوس الرجل على أليته ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.

.مسألة ما كان عليه أصحاب رسول الله عليه السلام من شظف العيش:

فيما كان عليه أصحاب رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ من شظف العيش قال مالك: بلغني أن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: «إن كنا لنقيم شهرا وما نوقد نارا، فقيل لها فما كنتم تعيشون به قالت: التمر، وكان جيران لنا من الأنصار لهم الغنم فكانوا يبعثون إلينا بالقدح والقدحين».
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى والقول فيما يتعلق بذلك في بيان الأفضل، من الفقر أو الغنى في رسم نذر سنة.

.مسألة من يعد في جملة الملوك:

فيمن يعد في جملة الملوك وحدثني مالك عن عبد ربه بن سعيد أنه قال: يقال من كان له بيت يأوي إليه وخادم تخدمه وزوجة فهو من الملوك الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20].
قال محمد بن رشد: هذا صحيح في المعنى، لأن هذا هو الذي يحتاج إليه في الدنيا، وما زاد عليه فهو في غنى عنه. وذلك مروي عن ابن عباس في تفسير الآية قال: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] الزوجة والخادم والبيت. وقال الحسن: الرجل ملك في بيته لا يدخل عليه إلا بإذن، فمن له مسكن وزوجة وخادم وما يقوم به في الإنفاق على نفسه وزوجه وخادمه فهو من الملوك، إذ لا حد لما زاد على ذلك. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه له قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها». فكيف لمن له مسكن وزوجة وخادم.

.مسألة التفاضل بين الأنبياء:

في أن بعض الأنبياء أفضل من بعض قال مالك: إن موسى قال يا رب ما لإبراهيم وإسحاق ويعقوب لا تذكر إلا ذكروا ولا يذكرون إلا ذكرت ولا أذكر كما يذكرون؟ قال إن إبراهيم ما عدل بي شيئا قط إلا اختارني، وإن إسحاق جاد لي بنفسه فهو بما وراءها أجود، وإن يعقوب لم أبتله ببلاء إلا ازداد حسن ظن بي.
قال القاضي: في هذه الحكاية في سماع أشهب بعد هذا: قيل لمالك وما معنى قوله إذا ذكرت ذكروا فإن ذكروا ذكرت، قال: إذا ذكر الصالحون إنما يذكرون بذكر الله عز وجل وبطاعتهم له. ومعنى هذا الذكر الذي أراد في الملأ الأعلى عند الملائكة والله أعلم. وفيه أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]. وفي قوله إن إسحاق جاد لي بنفسه يدل على أنه هو الذبيح لا إسماعيل. وقد اختلف في ذلك حسبما يأتي القول به بعد هذا في هذا الرسم إن شاء الله، وبه التوفيق.

.مسألة مس المرأة فرجها:

في مس المرأة فرجها وسئل مالك عن مس المرأة فرجها، أترى عليها فيه وضوءا إذا مسته؟ فقال: ما سمعت فيه بوضوء. فقيل له: فالرفغين والشرج والعانة؟ قال ما سمعت فيه بوضوء، وإنما سمعت في الذكر، وإني لأكره لمثل هذا أن يمس على وجه التقذر. وقد كان بعض الملوك وأصاب الناس الطاعون فطعنت امرأة من أهل بيته، فقال: أين طعنت؟ فقال رجل تحت إبطها، فدخل عليه عمر بن عبد العزيز فسأله أين طعنت؟ فقال: تحت يدها كراهة أن يذكر إبطها، وكان يجتنب ما يكره من الكلام ويتبع حسن الكلام كأنه رأى الفرج والعانة والشرج والتنكب عنها من هذه الناحية.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في مس المرأة فرجها، فروي عنه في ذلك أربع روايات: سقوط الوضوء، واستحبابه، وإيجابه، والرابعة الفرق بين أن تلطف أو لا تلطف، وهي رواية ابن أبي أويس عنه.
والاستحباب راجع إلى سقوط الوضوء، فهي ثلاثة أقوال: سقوط الوضوء، ووجوبه، والفرق بين الإلطاف وغيره. وقد تأول أن رواية ابن أبي أويس مفسرة للقولين، وأنه ليس في المسألة إلا قول واحد وهو الفرق بين أن تلطف أو لا تلطف. وكذلك اختلف قول مالك في إيجاب الوضوء من مس الذكر، فروي عنه إيجابه، وسقوطه، واستحبابه، والفرق بين أن يكون ناسيا أو متعمدا. وقد ذكرنا الاختلاف في هذا محصلا مبينا في غير هذا الكتاب. ولا اختلاف في أن الوضوء لا يجب من مس شرج ولا رفغ ولا عانة، وإن كان يكره ذلك للتقذر، والشافعي يوجب الوضوء من مس الدبر تعلقا بظاهر قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من مس فرجه فقد وجب عليه الوضوء»، وبالله التوفيق.

.مسألة يسمع كلام الإمام في الخطبة وهو في الطريق:

في الذي يسمع كلام الإمام في الخطبة وهو في الطريق قال مالك: بلغني «أن عبد الله بن رواحة أقبل إلى المسجد يوم الجمعة، فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول وهو على المنبر للناس: اجلسوا قال: فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في الطريق فجلس مكانه في الطريق لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجلسوا».
قال القاضي: في هذا دليل على أنه يستحب لمن أتى الجمعة أن يترك الكلام في طريقه إذا علم أن الإمام في الخطبة وكان بموضع يمكن أن يسمع منه كلام الإمام؛ وقد قيل إن الإنصات لا يجب عليه حتى يدخل المسجد، وهو قول ابن الماجشون ومطرف؛ وقد قيل إنه يجب عليه منذ يدخل رحاب المسجد التي تصلى فيها الجمعة من ضيق المسجد، وبالله التوفيق.

.مسألة وصف بعض شجرة الجنة:

في وصف بعض شجرة الجنة قال مالك: بلغني أن في الجنة شجرة يسير الراكب تحتها مائة عام.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا إلا الإعلام بعظيم قدرة الله تعالى وما أعده لأوليائه في دار كرامته. وقد جاء «عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال حاكيا عن ربه: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وبالله التوفيق.

.مسألة فضل صدقة المقل:

في فضل صدقة المقل قال: وحدثني مالك أن أبا هريرة كان يقول: سبق صاحب الدرهم صاحب مائة ألف درهم، فقيل لأبي هريرة لم ذلك؟ قال: يكون له مائة ألف درهم لا يتصدق منها ولا يكون لهذا إلا درهم واحد فيتصدق به.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن صاحب مائة ألف درهم إذا لم يتصدق منها إلا بما وجب عليه فيه من الزكاة فقد سبقه في الأجر صاحب الدرهم إذا تصدق بدرهمه كله. ولو تصدق صاحب الألف درهم بدرهم سوى الزكاة لكان صاحب الدرهم قد سبقه لتصدقه بدرهمه الذي لا مال له سواه، بدليل ثناء الله عز وجل على من جاد بما عنده من اليسير فقال عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. ولو لم يتصدق صاحب الدرهم بشيء من درهمه لكان صاحب المائة الألف الدرهم قد سبقه في الأجر بتأدية زكاة ماله. وهذا يدل على فضل الغنى على الفقر، وقد مضى القول في هذا في رسم نذر سنة، وبالله التوفيق.

.مسألة تقديم الخطبة في العيد قبل الصلاة:

في تقديم مروان الخطبة في العيد قبل الصلاة قال مالك: خرج مروان يوم العيد إلى المصلى ومعه أبو سعيد الخدري فلما أتيا المصلى مضى مروان ليصعد المنبر، قال: فأمسك أبو سعيد بثوبه وقال الصلاة، فاجتبذ مروان منه جبذة شديدة حتى نزع ثوبه من يده فقال: قد ترك ما هنالك يا أبا سعيد، فقال أبو سعيد: أما ورب المشارق لا تأتون بخير منها.
قال القاضي: أول من قدم الخطبة على الصلاة في العيد معاوية، وقيل عثمان أول من فعل ذلك، كان لا يدرك عامتهم الصلاة، فبدأ بالخطبة حتى يجتمع الناس. وروى ابن نافع عن مالك ما يدل على ذلك قال: السنة أن تقدم الصلاة قبل الخطبة، وبذلك عمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر وعثمان صدرا من ولايته. ومن قال: أول من قدم الخطبة على الصلاة في العيد مروان فإنما أراد بالمدينة لأنه كان أميرا عليها لمعاوية، ويدل على ذلك قوله لأبي سعيد الخدري قد ترك ما هنالك. قال ابن حبيب في الواضحة: وأول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين هشام بن عبد الملك، أراد أن يؤذن الناس بالأذان لمجيء الإمام، ثم بدأ بالخطبة قبل الصلاة كما بدأ بها مروان، ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن الناس بها بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة، وذلك حين كثر الناس فكان يخفى عليهم مجيء إمامهم وفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة لبعدهم عنه. قال ولم يرد مروان وهشام إلا اجتهادا فيما رأيا، إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالله التوفيق.